الأربعاء، 9 يناير 2013

آلاء

ربما لم تكن الأجمل بين أترابها، لكنها من صارت إليّ وشاركتني لحظات السعادة..
بيضاء، سوداء الشعر، حلوة لكنها عنيدة..شديدة العناد..

أنا لست عصبياً، أظنني هادئ الطباع، لكن ماذا تقول في دلع النساء؟..يطير به عقل أكثر الرجال حلماً!
ربما من التجني أن أعزو عنادها لدلع النساء، فـ(الطيب)، جارها الصعيدي، كان أكثر عناداً منها، ولست متأكداً أنني سأكون ظالماً إن عزوت ذلك لكونه صعيدياً!

هي لا تجاريني!..تسايرني إلى حد ما لا تجاوزه، أحاول إغواءها، أملس غرتها، أسوي شعرها، ترتجف منتفضة ثم تعود رافعة رأسها، تأبى مجاراتي!!
أما أنا فأجن!..لم تأبى مجاراتي؟..لماذا أنا بالذات؟!

***

مساء ذلك اليوم دخلت مع صديقي طلحة إلى الاسطبل، هتف بـ علي: "انتق لهذا الفارس حصاناً جيداً"
"احضر آلاء إلى المضمار" هتف علي بالسائس..
رأيتها بينما تدخل المضمار الصغير، قال لي علي "متمرس أم تريد مساعدة؟"، أجبته أن سأركب بلا مساعدة لكن راقبني، فلست متمرساً بالفعل..

- هيا حرّك حصانك!

ألكز الفرس بقدميّ على جانبيها، تنتصب أذناها أماماً علامة الخضوع، أطقطق بلساني، في تلك الحركة المزعجة، لم تكن صورتي الذهنية عن الخيل على هذا النحو!..أطقطق لها بلساني كأنما أسحب حماراً!..ياللسخافة!

حسناً هيا بنا يا صغيرتي، هل نركض الآن؟..ألكزها مجدداً بينما تتجاهلني..
يهتف بي علي "هيا اذهب!"..أسمعها الأصوات، ألكزها، بينما هي تسير ولا تلتفت!

- تباً!..ما شأنك يا فتاة؟!..

أضرب رقبتها براحة كفي، بثنية العنان، أصرخ بها آمراً، أغضب بينما يغلب على ظني أنها تهزأ بي!
"حسناً، كن رجلاً على غيري، لا تملك من أمري شيئاً"
أنظر حائراً إلى علي، بينما أحدث نفسي بأنها ستكون المرة الأخيرة لي مع الخيل إن لم أثبت نفسي اليوم، يهتف علي "توقف!"..
أشد العنان ملجماً آلاء، بينما أنظر إليها بغضب ونفاذ صبر!
يقترب علي، في تردد يعطيني السوط "لا تضربها بشدة، اجعلها تطيعك وحسب"، أبتسم في لؤم..

أمسك السوط بيميني، أستعد، ألكزها بقدمي لتسير، ثم أدير رسغي الأيمن فتسمع آلاء خفقة السوط..وفي لحظة واحدة، صارت كأنما هي تطير فوق الأرض..أضمها بين رجليّ وأرخي لها العنان..
"يداك على مستوى وسطك، لا تجذب العنان، تناغم مع الفرس"..أتذكر تعليمات محمد في يومي الأول..
عند آخر المضمار انعطفت مائلة إلى اليسار، بينما الهواء يضرب وجهي "رباه كم هذا رائع!.."
تدور في الميدان بينما أريدها أن تسرع، أسمعها السوط مجددا بينما طرفه يضرب السرج، تزيد هي من سرعتها، تعلو أنفاسها ضابحة وتثير الغبار، يهتف بي علي "هدئ حصانك!"، أجذب عنانها فتلتجم..

عنيدة، يصلحك السوط، لكنك رائعة!..
أنزل عنها بينما أمسح رأسها ورقبتها، يسيل عرقها على يديّ، بينما أتلو "والعاديات ضبحا"..

السبت، 5 يناير 2013

امتهان

لفظة دارجة في أكثر من سياق، لطالما تأملت في أمرها، وكيف اجتمع هذا المعنى بذاك!

في لسان العرب، مادة "مهن"، نجد:
"المَهْنَة والمِهْنَة والمَهَنَة والمَهِنَةُ كله الحذق بالخدمة والعمل ونحوه"
(والتشكيل من موقع الورّاق)
وفي نفس المادة:
"وامْتَهَنْتُ الشيء: ابتذلته. ويقال: هو في مِهْنةِ أَهله، وهي الخدمة والابتذال"
وآخر المادة:
"وقال أَبو إِسحق: هو فَعيل من المَهانةِ وهي القِلَّة، قال: ومعناه ههنا القلة في الرأْي والتمييز. ورجل مَهِينٌ من قوم مُهَناء أَي ضعيف. وقوله عز وجل: خُلِقَ من ماءٍ مَهينٍ؛ أَي من ماء قليل ضعيف."
 وكل شئ وعمل وأحد، هو معرّض للامتهان بمعانيه المختلفة، لا جديد في ذلك بالطبع، لكن ماذا عندما تمتهن الأفكار والقيم وحتى المشاعر؟
عندما تمتهن القضايا الكبرى، الثورة، والرياضة، وحتى الفن والأدب..كيف يكون الأمر؟..وكيف يكون بلا امتهان؟!

نقول: التخصص مطلوب للاتقان، وامتهان العمل والتفرغ له، وأن يكون مصدر دخلك، هو سبب للتوسع فيه ومنحه قسماً أكبر من وقتك وجهدك وحرصاً أكبر على الاتقان، كل هذا صادق وحقيقي، ولا أظن أحداً يجادل فيه..

إلا أن لذلك المتقن المتفرّغ وجهاً آخر، فممتهن العمل يسعى لرضاء مشتري عمله، فإن كان حداداً، صنع ما يحتاجه الناس ويرضيهم جودته ليشتروه، وإن كان نجاراً جوّد عمله ليطلبه الناس ويدفعوا له، وكذا، يكون مع الفنان والكاتب وحتى الداعية، فكثيراً ما يتماشى مع رغبة الناس وما يرضيهم، ذلك لأنه (امتهن) الفن أو الكتابة أو الدعوة..

لقد وقعنا -حقيقة- بين خيارين أحلاهما مر، في نمط حياتنا الحالي:
فداعية (امتهن) الدعوة، فهو يملك أدواتها حقيقة، يجيدها، لكنه لم يتصدر المشهد يوم تطلب منه كلمة حق خوفاً، أو مالأ الظَلَمة طمعاً..وهو في الأغلب يمالئ جمهوره، يسمعه ما يرضيه حتى لا ينفضّوا عنه إن أسمعهم رأياً غريباً ينكرونه..
أوداعية يقتطع من وقته وقوته ليحاول الإصلاح حقيقة بما يراه الحق، لكنه لا يجد طريقاً لضيق وقته أو قلة مهارته..

وفنان (امتهن) فنه، وتفرغ له ولتطوير أدواته وعمله، تسخّر له الامكانات وترصد له الأموال ليخرج عمله جميلاً، مبهراً..لكنه صار يعمل حسب توجهات (السوق) مهما كانت، فهذه الأموال لا ترصد له عبثاً!
أو فنان مخلص لفنه قد استغنى عما يدرّه من دخل ولا يسعى فيه إلا لأن يكون معبراً عنه..يختطف من زخم الحياة ساعة، ليعبر فيها عن نفسه ويمارس ما يحب، فإن عرض له أمر ما يتعلق بأمر معيشته قدمه وأعطاه الأولوية..

قل نفس الشئ عن الثوري والمناضل والحقوقي والأحزاب السياسية وحتى المقاتلين أحياناً، قل نفس الشئ عن الكتاب والأدباء، قل نفس الشئ عن كل من امتهنوا القضايا الكبرى، نحن اليوم غالباً مخيرون بين البراعة والإبهار، أو الصدق مع الفقر..

 اننا -بهذا الشكل- نمتهن جميعاً هذه الدنيا، ونموت بعد أن نمل ابتذالها الذي ابتذلناه لها..لا بد من طريق وسط، ولا شك أننا إن وجدناه ستعود لهذه الشعوب حيويتها وقدرتها على الإبداع..