الليلة الأخيرة، أو ربما الساعات الأخيرة، من رمضان..
أن تؤدي أمانة أبيك، فتدفنه كما أوصى، ومع أول فرض صلاة، وتغسله وتلحده بيديك كما أوصاك، عن غير خبرة سابقة بما تفعل، وتتفتح لك كل الأبواب المغلقة في كل مكان، ويسهل لك الجميع آداء مهمتك كأنما هي تؤدى عنك..
يطيعك أكثر الناس تسلطا، ولا يستوقفك أكثرهم تعنتا، الطرق مفتوحة، وكل أحد وشئ يعاونك..
تحمل أباك فكأنما هو محمول عنك، لقد كان ثقيلا، منذ شهرين حملته بينما كان فاقدا الوعي، لم أستطع تحريكه واضطررت للوقوف حتى أفاق، يومها تطير جنازته من فوق أكتافنا وما نحن إلا أسباب، لكنها حملت عنا..
تغسله بنفسك كما أراد، لا يدخل إليه غيري وأخي ومغسل أمين جزاه الله عنا خير الجزاء..فتراه نائما لا أكثر، تطيبه بالمسك والكافور، وتضعه في ثلاثة أكفان..
أن تظلك غيمة بعد تلقي العزاء عند المقبرة، وتطمئن أمك بمرأى المقبرة، أن تعود وقد أديت ما عليك لهذا اليوم، لتدعو الله أن يعينك فيما هو آت كما أكرمك اليوم..
كل هذا لا تغفل عنه في حزنك..فالحمد لله..
تسمع الثناء عليه والشهادة له بالصلاح وحسن السيرة، يأتيك من لم يعرف في حياته لكنهم جاؤوا لما سمعوا من حسن سيرته أو مما فعل من خير عاد عليهم يوما ما..
لا يترك الأب لأبنائه خيرا من ذلك، حتى سخر الله الخضر لأبناء العبد الصالح..لتكن ممتنا..
لا زلت أفكر كلما رأيت صيدلية "هل طلب شيئا؟"
لا زلت أنتظر موعد الإبرة..
لا زلت أتوهم أنه يناديني أحيانا، أو أن رنين هاتفي هو نداء منه..
وعندما يمر بي موقف ما، أفكر "ماذا سيقول أبي؟"..
***
نحن الآن بانتظار العيد، أو اليوم الأخير من رمضان، وفي الحالين أوصيكم بالدعاء، كل عام وانتم بخير..
والحمد لله رب العالمين..
وأهم أحداثه هذه السنة، بالنسبة لي، هو وفاة والدي رحمه الله عليه، وأنني سوف أستقبل العيد دونه.
لا أذكر من قال لي يوما: "يعيش الانسان طفلا، حتى إذا مات أبويه شاخ فجأة"..لا أعلم ان كان صدق، لكن التغير الشديد الذي يطرأ على الانسان يجعل هذه المقولة حاضرة في ذهني بينما أتكلم..
عانى رحمه الله كثيرا وتألم، لكنه كان صابرا كالجبل، مع ذلك كنا ننتظر شفاءه، كان قد تماثل للشفاء فيما نرى، وكان يجمعنا حوله، فالنهاية قريبة فيما يرى..وما من نهايات انما هي مراحل..
أن تكون حزينا..
مع اقتراب الفجر تلح علي الأفكار والصور..
"اتصل بالدكتور يا أحمد، أبوك تعبان ومش عارفة أعمل ايه"..
ضغط الدم غير مقاس..
محاولات لتركيب محلول الملح تفشل دائما..
طلب الاسعاف..
أحمله إلى السيارة مع المسعفين، أنظر إلى وجهه من فوق كتفي، أراه هادئا كأنما لا يعنيه شئ..
"وحدك تأتي معي"..
CODE BLUE
يخرجني مسؤول الأمن من غرفة الانعاش..
"لا يبدو الوضع جيدا، يمكننا مواصلة الانعاش إلى مالا نهاية، لكن إذا لم يستجب في نصف ساعة فلن يستجيب، ونحن نقوم بذلك منذ ساعة ونصف!"
أذان الفجر..
"البقاء لله"..
هكذا يختطف الموت البشر إذا..تكون غافلا عنه، ناسيا له..حتى إذا ألم بك تجاهلت كل علامات الاحتضار، هكذا كان حالي أنا معه..صامت تماما في حضرته، لكن رأسي يمتلئ بالصراخ..
"عن أي شئ يتحدثون؟..مجرد انخفاض في الضغط، هل عجزتم أيضا عن اعطائه محلول الملح؟!"
أستأذن الطبيب داخلا إلى الوالد لألقي نظرة، لا يبدو لي ميتا..ليس إلا أن أوقظه!..أناديه فلا أعرف صوتي..أحاول أن أكلمه فأصمت..
يخرجني الطبيب، يطلب مني الجلوس قليلا ثم احضار أوراقه الثبوتية لانهاء الاجراءات..
بطريقة ما أنتقل إلى البيت وأنا أحمل الجبل على رأسي..
"ماذا أفعل؟".."كيف أعود بدونه؟".."ماذا سأقول؟"
أن تكون راضيا..
"فإن مع العسر يسرا"
لا أظن كربا قد مر بي يوما بهذا الثقل..لكن الله أعانني ولطف بي حتى رضيت..أن تؤدي أمانة أبيك، فتدفنه كما أوصى، ومع أول فرض صلاة، وتغسله وتلحده بيديك كما أوصاك، عن غير خبرة سابقة بما تفعل، وتتفتح لك كل الأبواب المغلقة في كل مكان، ويسهل لك الجميع آداء مهمتك كأنما هي تؤدى عنك..
يطيعك أكثر الناس تسلطا، ولا يستوقفك أكثرهم تعنتا، الطرق مفتوحة، وكل أحد وشئ يعاونك..
تحمل أباك فكأنما هو محمول عنك، لقد كان ثقيلا، منذ شهرين حملته بينما كان فاقدا الوعي، لم أستطع تحريكه واضطررت للوقوف حتى أفاق، يومها تطير جنازته من فوق أكتافنا وما نحن إلا أسباب، لكنها حملت عنا..
تغسله بنفسك كما أراد، لا يدخل إليه غيري وأخي ومغسل أمين جزاه الله عنا خير الجزاء..فتراه نائما لا أكثر، تطيبه بالمسك والكافور، وتضعه في ثلاثة أكفان..
أن تظلك غيمة بعد تلقي العزاء عند المقبرة، وتطمئن أمك بمرأى المقبرة، أن تعود وقد أديت ما عليك لهذا اليوم، لتدعو الله أن يعينك فيما هو آت كما أكرمك اليوم..
كل هذا لا تغفل عنه في حزنك..فالحمد لله..
أن تكون ممتنا..
"إن مع العسر يسرا"
ترك لك أبوك الذكر الحسن، ومحبة الناس..يأتونك جماعات، ليعزوك ويؤازروك، يعرضون خدماتهم بود صادق، ولا تمر أيام حتى يعتمر عنه العشرات من أصدقائك وأصدقائه ومحبيه..تسمع الثناء عليه والشهادة له بالصلاح وحسن السيرة، يأتيك من لم يعرف في حياته لكنهم جاؤوا لما سمعوا من حسن سيرته أو مما فعل من خير عاد عليهم يوما ما..
لا يترك الأب لأبنائه خيرا من ذلك، حتى سخر الله الخضر لأبناء العبد الصالح..لتكن ممتنا..
وإنا لفراقك لمحزونون..
لا زلت أوقف السيارة قريبا لباب البيت ربما يود أبي الخروج..لا زلت أفكر كلما رأيت صيدلية "هل طلب شيئا؟"
لا زلت أنتظر موعد الإبرة..
لا زلت أتوهم أنه يناديني أحيانا، أو أن رنين هاتفي هو نداء منه..
وعندما يمر بي موقف ما، أفكر "ماذا سيقول أبي؟"..
***
والحمد لله رب العالمين..