السبت، 12 مايو 2012

غزوة الصناديق

بالنسبة لي، لم يكن من بأس بهذا العنوان، فبغض النظر عما يقوله الشعب للدين، أجد أن آداء الأمانة تجاه بلادنا وأهلنا هي جهاد..

أكتب هذه السطور في اليوم الثاني من أيام التصويت للمصريين بالخارج، وربما أطيل في هذه التدوينة لأن هناك الكثير مما يقال، نعم، من الأمس الى اليوم، بل من أمس الأول، هناك الكثير من المشاهدات، والاستنتاجات، والأفكار طرأت في بالي، أود ترتيبها هنا ومشاركتها..

أود ابتداء أن أحيطك علما أنني سأقول في هذه التدوينة:
  • كيف تجري الأمور في انتخابات الرئاسة للمصريين بالخارج، وملاحظاتي على تنظيم عملية الاقتراع
  • حيثيات اختياري لمرشح بعينه (أهم ما أرى وجوب توفره في أي مرشح)
  • ملاحظات حول سلوك عموم الناس

-1-

النظام الانتخابي للمصريين المقيمين بالخارج يقوم أساسا على التصويت البريدي، وهو مشروح ومفصل في موقع الانتخابات وأساسه هو ارفاق صور الوثائق الثبوتية مع الصوت الانتخابي واقرار بتفويض الخارجية باستلام صوتك وفرزه، ثم ارساله بالبريد الى مقرك الانتخابي بالخارج، تم العمل على هذا النظام في الانتخابات البرلمانية سابقا، مع امكانية وضع المظروف بنفسك مباشرة في الصندوق الزجاجي المخصص لدائرتك والموجود بالقنصلية.

كانت مشكلة هذه الطريقة كونها (صعبة) بالنسبة للكثيرين، فحتى يتم آداء كل هذه الخطوات وجد الكثيرون صعوبة، خاصة بالنسبة للفئات الأقل تعليما، أو أقل قدرة على التعامل مع انترنت، كما يجد كثير من الناس مشاكل مع تنفيذ التعليمات المكتوبة بشكل دقيق، كانت هذه جميعا أسباب لاعتبار التصويت البريدي صعبا، ولا أعلم ان كان استحداث الطريقة الأخرى جاء تجاوبا مع هذا العامل أم لأسباب أخرى، لكن وعلى أي حال، فقد تم في انتخابات الرئاسة الجارية حاليا، تحويل السفارات والقنصليات إلى مقار انتخابية، بشكل يشبه مقار الانتخاب في الداخل، حيث يطبع المصوت بطاقته التصويتية ويختار مرشحه، ثم يضعها في مظروف صغير ويذهب إلى القنصلية حاملا الوثائق الثبوتية المصرية أو صورا منها، ووثيقة الاقامة في البلد المقيم فيه، وبعد ختمه للمظروف بمعرفة القناصل (على غرار ختم بطاقات التصويت في لجان الداخل) تجري عملية الاقتراع بشكلها العادي: التوقيع أمام اسمه في الجداول الانتخابية، ثم وضع الصوت في الصندوق.

بشكل عام، جرى الأمر بهدوء وبشكل مثير للاعجاب في انتخابات مجلس الشعب، ربما بسبب كثرة الصناديق، وربما لعدم معرفة الكثيرين بامكانية التسليم شخصيا، وصلت إلى القنصلية مع صديق لي، حاملا معي مظاريف صوتي واصوات معارفي من نفس الدائرة، دخلنا إلى قاعة واسعة توزعت فيها صناديق الاقتراع مكتوبا على كل منها اسم الدائرة، وضعت المظاريف في صندوق دائرتي ثم خرجت، تم الأمر بهدوء غير معتاد في أي مصلحة مصرية على أي حال.

ربما لتجربتي السابقة، ذهبت في اليوم الأول للانتخابات الرئاسية، بنفس الانطباع الايجابي السابق، متوقعا أن تسير الأمور بسلاسة مشابهة، لكن مع وصولي إلى القنصلية المصرية بجدة، وجدت تشديدا أمنيا خارج القنصلية، دورية أمنية اضافية وزيادة ملحوظة في عدد الحراسة السعودية، وحركة كثيفة في محيط السفارة، على نحو ما يجري عليه الأمر في مجمع التحرير، تجاوزنا البوابة الأمنية المعطلة، بينما وجدنا الناخبين يملأون الساحات الخارجية والممرات، يتنادون ويتجادلون إما في شأن الاجراءات أو المرشحين، توجهت مباشرة إلى حيث القاعة الرئيسية، مع دخولها وجدت زحاما شديدا واعلانات معلقة باصرار وتكرار، لكن لا يمكنك الوصول لأي منها بسبب الزحام، في وسط القاعة تجمع عدد كبير من الناخبين يملأون بطاقات اقتراع، ولسبب ما كان كثير منهم يستغرق وقتا طويلا، بينما قطع القاعة كلها طابور طويل للرجال، بعد أن تتبعته وجدته يملأ ثلاث قاعات ابتداء من قاعة الانتخاب، مرورا بقاعة التوزيع، ووصولا إلى قاعة ثالثة، جميعهم بانتظار ختم المظروف ليقوموا بالتصويت.

أمام قاعة الانتخاب، وقف عدد من موظفي القنصلية لتنظيم الحركة والاجابة عن الاسئلة، طابور الناخبات لم يكن يصل إلى خارج قاعة الانتخاب، وكانت أمورهن تسير بسلاسة ويسر، وكان الفرق بين عدد الناخبين الرجال والسيدات كبيرا فيما هو واضح، وهذا مبرر ومفهوم بالنظر لكونه يوم جمعة.

أهم ما واجه الناخبين من مشاكل، بخلاف الزحام، كان يتعلق -أيضا- بمدى الالمام بالاجراءات، بعضهم كان يظن أن عليه تضمين صور أوراقه الثبوتية  في مظروف الصوت الانتخابي (رغم حضوره إلى القنصلية)، بعضهم الآخر لا يحمل بطاقة تصويت على الاطلاق، البعض أيضا قام بتنزيل البطاقة من غير موقع الانتخابات الرسمي فخرجت البطاقة بشكل مختلف، حاول البعض حل نقص البطاقات بتصويرها وتوفيرها للآخرين، إلا أن هذا أثار مشادة مع موظفي السفارة خاصة بعد توزيع أحد الناخبين لبطاقات معلمة للمرشح حمدين صباحي، كانت حجة الموظف هي "أنني لن أستطيع التفريق بينك وبين الآخر، على كل ناخب أن يحضر بمظروف مغلق يحوي صوته الانتخابي"، رغم وجاهة منطق الموظف، إلا أنني أعتقد أن على القنصلية أن تغلق باب هذه المشاكل بتوفير بطاقات اقتراع مطبوعة ومختومة على نحو ما يجري في اللجان الانتخابية داخل مصر.

-2-
رغم أنني أجلت تصويتي لوقت آخر (أقل ازدحاما) إلا أنني سئلت عمن وقع عليه اختياري، أفضل هنا أن أتحدث عن كيفية اختياري للمرشح، بالنظر للخلفيات والأحداث التي وقعت منذ الثورة إلى اليوم..

يشيع الحديث في هذه الانتخابات عن البرنامج الانتخابي، بالنسبة لي أجد أن البرامج الانتخابية هي وعود لا أعرف المنطق من وراءها، كل هذه الوعود ربما تنم عن توجهات الرئيس وما سيحاول توظيف صلاحياته لتحقيقه، لكننا ابتداء لا نعلم بعد ما ستكونه هذه الصلاحيات، وأيا كانت فهي لن تكون بهذه الشمولية وهذا العمق مهما كانت، يقدم السادة المرشحون برامجا كاملة تليق أكثر بشخص يملك كل صلاحيات الدولة في يده، هذا لن يحدث بالفعل لو تم لنا ما اردناه من الثورة!

بالتالي، أجد أن المفاضلة بين المرشحين الرئاسيين وفقا لـ(قوة البرنامج) هي مفاضلة غير سليمة، كل البرامج الرئاسية بالنسبة لي لم استشف منها سوى الخطوط العريضة والعامة لكل مرشح وتطلعاته للبلاد، أما القضايا التفصيلية فلا يجب أن تكون من صلاحيات الرئيس كما لا يجب أن يسأل عنها.
***
تبنى الاخوان وبعض القوى السياسية لفترة من الفترات فكرة المرشح التوافقي، بالنسبة لي: هذه فكرة جذابة، وبغض النظر عن أطراف التوافق إلا أنني أعتقد أن التوافق هو -اجمالا- أمر محمود وجيد، لم لا؟
بالنظر لوظيفة الرئيس، وصلاحياته، في كل النظم المؤسسية، فالرئيس يشكل مرجعية عليا للجميع، وبيده صلاحيات حاسمة فوجود القبول له بين مختلف الأطراف السياسية على الساحة (الرئيسي منها على الأقل) يعطي قراراته قوة وقبولا بالتالي، ما يمكنه من آداء وظيفته بشكل سليم.

سعى الاسلاميون منذ سقوط مبارك إلى التوافق أيضا على مرشح اسلامي واحد، كانت الفكرة بالنسبة لي -أيضا- رائعة بالنظر لكون البرلمان سيحوي بلا شك اطراف الاسلاميين المختلفة، خاصة أنني توقعت أن يتمكنوا من التوافق على مرشح واحد ولم اتوقع أن تسير الأمور على ما يرام بينهم في البرلمان، لكنني لاحقا، وجدتها فكرة سيئة، أدت لانكفاء الاسلاميين على أنفسهم واستغراقهم كل الوقت في التوافق فيما بينهم وحدهم دون جدوى، وحتى لو توافقوا، فليس الاسلاميون وحدهم في مصر، ولا يمكن القول بأنهم يملكون السيطرة الكاملة على أصوات الناخبين، حقيقة أن الاسلاميين هم الأقدر على توجيه أصوات الناخبين، لكن حادثة مثل خسارة الشيخ عبدالمنعم الشحات في انتخابات البرلمان في دائرة تحوي كثافة سلفية لا يستهان بها، كانت بالنسبة لي مؤشرا مهما، على أن أغلب الأصوات التي ينالها الاسلاميون هي أصوات جاءت من أفراد غير موجهين، واثقين في هذه الأحزاب والشخصيات، وليست من أفراد منخرطين داخل منظوماتهم وحاملين لفكرهم، ومادام الأمر كذلك، فقد كان يجدر بنا أن نبحث عن قدر أكبر من التوافق، لا مجرد التوافق بين الاسلاميين وحدهم.

انتهت هذه الجهود جميعا إلى لا شئ بعد صدور قائمة المرشحين النهائيين، لا بأس، لكن يظل وجود القبول الواسع لشخصية الرئيس في نظري وكذا فهمه السليم للتعددية وأهمية الحريات بالنسبة لي عامل أساسي في تقييم مرشح الرئاسة.
***
المصداقية هي أهم ما يجب أن يميز القائد في العموم، ومصداقية الشخص تأتي أولا من تاريخه ومجمل سلوكياته، وبالنظر لتاريخ الشخص دائما ما نستخلص أمرين:
الأمر الأول: هو نزاهة الشخص، ووجود المؤشرات على صدق توجهاته ونيته.
الأمر الثاني: قوة الشخصية وقدرتها على اتخاذ القرارات بشكل حاسم.
بالنسبة لي، أجد أن انعدام المصداقية من أي من وجهيها المبينين سابقا، هو خطأ قاتل، ومهما كانت مميزات المرشح الأخرى التي يدفع بها، من خبرة أو تمرس أو انجازات مفترضة، فغياب المصداقية تعني أنه ليس قائدا، وكل خبراته وانجازاته، ربما، تصلح لتوظيفه في سلك الدولة، لا لقيادتها.

ومسألة المصداقية بالتحديد، هي السبب الأول بالنسبة لي في رفضي لاعطاء صوتي لأي من أفراد النظام البائد.
***
بالنظر لما سبق، كان من الواجب أيضا أن يظهر أثر العوامل سابقة الذكر بأن ينتج عنها جميعا عامل آخر مهم: هو القدرة على التفكير المستقل والوقوف على مسافة متساوية من فئات الشعب المختلفة.

تكلمت فيما يتعلق بالملكات الشخصية والامكانات القيادية، وهو أساسي بطبيعة الحال، هناك بالنسبة لي خطوط حمر أخرى تتعلق بأولوياته الداخلية ونظرته لادارة العلاقات الدولية، داخليا أولي الحريات أهمية كبرى، كما هو من المهم بلا شك أن يظهر توجها نحو تحسين وضع المواطن فيما يتعلق باحتياجاته الأساسية، بالنسبة لي أعتبر الحديث عن النظم الاقتصادية الرأسمالية والاشتراكية حديثا عفا عليه الزمن، اقتصاد اليوم لا يحتاج إلى قوالب جاهزة أو حتى سياسات ثابتة لادارته بالشكل الصحيح، وخارجيا لا أعطي صوتي بطبيعة الحال، لأي شخص غير واضح في اعتبار الصهاينة أعداء لمصر، من باب تقرير المبادئ وحسب، لكنني بالطبع لا أطالب أي منهم اتخاذ قرار الحرب فورا لو امتلك الصلاحية.

-3-
في الأحداث الكبرى والأوضاع الاستثنائية، دائما ما يتصرف الناس بشكل مختلف وعلى نحو يفاجئهم (هم أنفسهم)، وعندما يشعر الجميع أن ثم احترام لصوته ورأيه، وأنه يستمتع اليوم بانجاز ناله بتكاليف باهظة، فانه يعمل جاهدا للحفاظ على هذا الوضع بعد أن أصبح لديه ما يخاف أن يخسره..

كان الوضع داخل القنصلية وفي محيطها أشبه بالاحتفال أوالعرس، امتلأت القاعة بالرجال والنساء والأطفال يتراكضون بيننا ويرددون أسماء المرشحين، ليس لهم حق التصويت لكن لسبب ما وجدوا جميعا هنا..

طابور الناخبين كان طويلا بشكل لا يصدق، بطيئا ثقيلا، وهادئا أيضا بشكل لم أصدقه، وقف فيه الشباب وكبار السن على السواء بصبر لم أشأ أن أمتلكه، لكنه مؤشر على احساس قوي بالواجب.

الحديث والتعامل ودي في مجمله، رغم أن مجموعات تخوض نقاشات شرسة حول تفضيلاتهم في مجموعات متناثرة، وقفت أمام احدى هذه المجموعات مبتسما، فدعوني بابتسامة للانضمام، علقت ضاحكا: "اللي ذاكر ذاكر من زمان!"

يشعر الناس بأنهم أصحاب المصلحة، أصحاب الحفلة، لا يريد أي منهم تعكير صفو يومه، لم توجد محاولات ممنهجة للتأثير على أصوات الناخبين، كما ووجهت المحاولات الفردية بحسم من الناخبين قبل موظفي السفارة..

هؤلاء الناس قد ذاقوا طعم الأمل، فليحذر كل من يقود مصر اليوم أو غدا من احباطهم، فلن يمر مرور الكرام.

هناك تعليقان (2):