الأحد، 23 ديسمبر 2012

من أعمالكم..

يصلني رابط فيه فيديو ممنتج لأحد المشهورين بالدعوة، امتلأ الفيديو بالسباب والخطاب الهجومي، جمع من كلامه على مدى أشهر وربما سنوات، منذ بدأ هذا الداعية اعتماد أسلوب التدوين المرئي، أشاهد الفيديو في أسف، أضحك في بؤس لأقول: "من أعمالكم سلط عليكم"
***
يحدّق الرجل في الكاميرا بشكل حاول أن يكون مخيفاً، فخرجت النتيجة مضحكة، أنا أعرف جيداً فيم يفكر، لقد مررت بكل هذا من قبل، لقد نال من مراهقتي مساحة كبيرة، في ذلك الوقت عندما كان الاسلاميون طرفاً مستضعفاً قد تسلط عليه ضغط نفسي وأمني كبير، سخرية وتسفيه وتهم تفرد لها ساعات طويلة في قنوات الاعلام وصفحات من المجلات والمطبوعات الرسمية وشبه الرسمية، فيما لا مجال يترك للرد، في هذه الحالة، وعندما كنا بهذه النفسية المأزومة، كان يرضينا أن نسمع من يرد قولهم، ويسفه عقولهم، ولم يكن لدينا إلا منابر الدعاة والمشايخ، ثم تسجل أقوالهم في شرائط الكاسيت، وتحول إلى ملفات رقمية تصبّر هؤلاء الشباب على ما يلاقون من أذى، يصبّرهم لا شك أن يسمعوا هذا الرجل يهزأ بتلك النسوة الجالسات بملابس غير محتشمة ليتحدثن في سفاهة في أمر "التين" (الدين)، ويرد على ادعاءاتهن التي لم تكن تستحق الرد أصلاً، لولا أن مشاعرنا قد تأذت فاحتجنا لأن يرد أحد ما على هذا الهراء والتسفيه..كان يسعدنا رده على تلك "المجلة النجسة" وتطاولاتها، وحتى، على شيخ الأزهر والمفتي (المفتن) لأجل مواقفهما المهترئة المستفزّة..

وكانت هذه التحديقة، لطالما شاهدتها من أحدهم عند حديثه عن "عزة المؤمن"، وعن "القوة في الحق"، عن "عمر بن الخطاب رضي الله عنه"، هذه القوة التي يظهرها لهم..نحن لسنا ضعافاً، نحن أقوياء كبلال بن رباح، إذ يحدّق في عيني معذبه قائلاً "أحدٌ أحد!"، وسنطأ صدوركم يوماً كما وطأ بلال صدر معذبه يوم بدر..
***
كنا حقيقة نطرب لما نسمع، أنا أحد من كان يطرب لسماعه، مراهق يشعر بالظلم، بكونه قد صنّف وقد أهين ما يحترمه، ظهر له يوماً من يهاجم هؤلاء الذين صنّفوه وسفّهوه وبطريقة مضحكة ساخرة، "ياللروعة! كم هو ظريف!"..كيف كنتم تظنون أن أفكر؟!
لا أظنني كنت متجاوزاً على أي حال، ففي تلك الحالة يوم يعطى سفيه كل شئ، كل المنابر، وكل الحرية، للتطاول عليك وتسفيهك والافتراء والكذب الصريح عليك، ثم أنت تجد نفسك مهدداً على أي حال، لن تكون متجاوزاً إن رددت بلسانك فأغلظت في القول!..بديهي!

لكن شيئاً ما خطأ، ثم خلل ما قد طرأ على هذه المعادلة، فبعد قليل ذابت الفوارق، وكأن بعضنا قد (نسي نفسه)، فأصبح الأسلوب الغليظ هو أسلوبه وطريقته، وصار الإغلاظ في القول هو ما يحسنه..شئ ما خطأ قد ارتكبناه، بأن يصبح بعضنا نجوماً لأنهم كرّسوا وقتهم في الرد على الآخر وادعاءاته وتسفيهه (مهما طغى وفجر)، فافتتنوا بفعلهم لاستحساننا له حتى صاروا لا يحسنون غيره، ونسوا الفرق بين من تختلف معه ومن يفتري ويكذب ويظلم، بين العاصي (أو حتى الكافر) الذي تتمنى هدايته وبين من كان حذاء ومركوباً لسلطان جائر وعصا يضربك بها..وظهر ذلك أول ما ظهر يوم وقف الدعاة لبعضهم البعض، يتصيدون لبعضهم الأخطاء ويتبادلون الردود والنقد وربما السباب أحياناً..ولم يكن هذا في نظرهم إلا (قوة في الحق)، فلن تختلف مع أحد إلا لكونك تراه على باطل، ومادام على باطل فما مزيته على غيره كي لا أجيبه كما أجيب غيره من أهل الباطل؟!

شئ ما خطأ قد ارتكبناه، يوم بحثنا عن ارضاء أنفسنا وتهدئة غضبنا والتشفي في خصومنا، وأهملنا الصبر على الظلم والأذى من الناس، فصنعنا طبقة من المشايخ والدعاة يجنون التقدير والقبول الاجتماعي بغلظة القول وسوء اللفظ،  فكانوا قدوة لبعض أغمارنا في هذا (وليس في غيره مما كان لهم فيه فضل)، وكانوا أيضا نقطة ضعف وبقعة في ثوب كان يجب أن يكون ناصعاً، استطاع منها البعض أن ينتقص كل الدعاة والمشايخ لوجود مثل هؤلاء!

كنت غافلا عن كل ما سبق، حتى استيقظت فجأة منذ شهر، أو يزيد، بعد مشاهدتي لذلك الفيديو، وتلك الصدمة عندما ترى أن بعض من احترمت في شبابك الأول قد شان نفسه أو أتاح لأحدهم أن ينتقصه، فكرت وتأملت طويلاً، وكان هذا ما وصلني، وترددت كثيراً في كتابته ونشره..

السبت، 17 نوفمبر 2012

البحر وأهله


ساحليّ بالولادة، كل مدينة قدّر لي الحياة فيها كانت ساحلية، على تعدد أسماء البحار، لكنها جميعاً متصلة، هو الماء، سطح واحد يغطي هذا الكوكب..

لأهل الساحل طابعهم الخاص، وبينهم كثير من المشترك، ليس الأمر أن تشارك صديقاً قاهرياً مائدة ليعلق بتذاكٍ عن طريقة أكل أهل الساحل للسمك، فتضحك في سرّك إذ صرت سفيراً لأهل الساحل عند صديقك الذي صار يعمم كل ما يرى منك على أهل الساحل..

ولا أن تسعد بمؤاكلة ريفي يترك لك كل (الجمبري، الروبيان، القريدس) ناظراً إليك شذراً بينما تلتهمه وحدك بكل استمتاع..

ولا أن يدعوك صديقك البدوي الأصل لمائدة من سرطانات البحر لتعلمه (كيف تؤكل هذه؟)

ولا حتى أن تنفجر ضاحكاً لتسمية فتاة جبلية الأصل سرطانات البحر بالـ(عقارب)

كل هذه مظاهر لا أكثر، صحيح أنها تعبر عن جزء هام من ثقافة أهل الساحل وعاداتهم، وأحد المشتركات بين ثقافة أهل السواحل في كل بلاد العالم، لكن ثم آثار أكبر في توجهاتهم وأفكارهم، فهم بوابات بلادهم إلى العالم، هم الأكثر انفتاحاً وأقل محافظة وأقل تعصباً، كما شرح ذلك ابن خلدون في مقدمته..

هم كذلك حماة البلاد وخط دفاعها الأول دائماً، ولا سيما هم في تاريخ الاسلام، المرابطون الأبطال، وأهل الثغور، أجر شهيدهم بشهيدين من مجاهدي البر، هم الأبطال الذين سطّروا الملاحم..من حالهم ما رآه ابن بطوطة في رحلته إلى الاسكندرية، وما عرفت به طرابلس الشام وصيتها في الجهاد، وعكا وحيفا ودمياط والسويس وبورسعيد، كما غزة تسطّر مجدها إلى اليوم منذ سنين..

هناك عند الساحل، هواء نظيف، وبشر يعتاشون على ما في البحر من كنوز، طعام وملح وتجارة وحلي، نعمة امتن الله بها على عباده لا يعرف قدرها مثل أهل الساحل..فهو سبب غنى أقوام وذل آخرين، في أصعب أيام حصار غزة، كسر الحصار بحراً، وروسيا العملاقة لا تجد سواحلاً صالحة للملاحة إلا في البحر الأسود، لتكون تحت رحمة تركيا التي تسيطر على البوسفور، وعيون العالم مصوبة على مصر، يخشى من أي توتر يعطل السير في قناة السويس، شريان العالم..لذا يعلم قادة الدول أهمية البحر كما يعلم أبناؤه..

هناك عند الساحل تمتلئ البلاد بالغرباء، يعيشون جنباً إلى جنب مع أصحاب البلاد، يبقى بعضهم ويرحل البعض، يشكلون مزيجاً ثقافياً واجتماعياً ثرياً، لطيفاً، مرحباً بالآخر دائماً، بينما تختفي، أو تكاد، بينهم القبلية والعصبية المقيتة، هم أكثر تواضعاً، لأنهم أكثر علماً، هم انفتحوا على العالم وخبروه، فلم يعيشوا وهم الشعب المختار، وقد رأوا كيف أن لكل قوم علم وفن..

وبعد، يصمهم البعض افتراءً، عن جهلٍ او حسد، فمن يخشى البحر يصف البحر بالغدر بدلاً من الاعتراف بجهله به، وكذا يوصم أهل الساحل كما وصم بيتهم، أو يوصمون لأنهم ليسوا أنقياء العرق، وكأن نقاء العرق مقصد في حد ذاته لأي سبب، أو يهملون في بعض الأقطار، ببساطة لأن الحاكم يفضل دائماً أن تكون عاصمته بين الأكثر تعصباً وحماسةً له، وهم غالباً ليسوا أهل البحر، الطموحين المتطلعين لبلاد الناس وأحوالهم، القادرين دائماً على مقارنة ما أعطاهم الحاكم وما يعطاه غيرهم في بلاد الناس..

لكن ما عليهم من كل ذاك؟..أن تكون ساحلياً، سيعلمك أن تكون كما البحر قادراً ببساطة على تجاهل كل سفاهات الآخرين، تماماً كما لا يغير ماء البحر اساءاتك ومخلفاتك، فهو أكبر من كل اليابسة، وهو من يحمل الدرّ في باطنه، وهو من لا غنى لك عنه!!

الخميس، 18 أكتوبر 2012

صديقي العنيد

- بالمناسبة لقد عرفتُ عمن تتكلم!
ترتفع هرموناتي مستثارةً في تحدي..
أتصنع الغباء، ألتفت نحوه، "مستبعد جداً!"..أنظر إليه بعينين ضيقتين مليئتان بالشك بينما يدور رأسي، هل أدركَ ما أخفيه بالفعل؟!..
"حسناً، أود أن أعرف ما بخلدك؟!..من تظن؟"
- لا ضرورة لذلك مادمت لم تختر أن تقول إذاً..
عيناه تقولان أنه يعرف، أجيبه ألا بأس، نحن أصدقاء وليس الأمر أنني أخفي عنك، لكن مادمت تعتقد أنك تعرف، دعني أرى كيف تفكّر؟..ولو من باب المشاركة؟
- حسناً نبدأ بالحرف...
أفكر أن تباً له!..كيف عرف؟!..ما من رابطٍ منطقيٍ يمكنه أن يتوصل به لهكذا نتيجة على الإطلاق..أنظر إلى عينيه ثابت الجنان بينما لا يبدو على وجهي أي تعبير، أستحثه على الكلام قائلاً "وبعد؟..من ببالك؟!"
- ألا يكفي؟!..أول حرف!
لنصف دقيقة أو يزيد، يظل وجهي جامداً بعناد، مع تعبيراتٍ متسائلة، أنتظر الحيرة أن تطفو على وجهه دون جدوى..ثم ألتفت مطلاً إلى الخارج من نافذة سيارته..
أسأله مبتسماً: "كيف عرفت؟!"..لينفجر كلانا ضاحكين..

السبت، 13 أكتوبر 2012

أعصابكم أيها الثوار!!

يقرر الرئيس دعوة مجلس الشعب للانعقاد، تحتج الدستورية وتنصب المكلمة في الاعلام، ينزل مؤيدوا الرئيس إلى الشارع..
ثم يتراجع الرئيس..
يقرر الرئيس تعيين النائب العام سفيرا بالخارج، يحتج من القضاة من يحتج، ينزل مؤيدو القرار ومعارضو الرئيس إلى الشارع، معركة تنصب في ميدان التحرير ويلعب السيد النائب دور المتأهب للشهادة بحديثه عن الاغتيال..
وبعد اجتماع مطول يتراجع الرئيس!

كم درس نحتاج لنتعلم أن تأييد موقف سياسي ما يجب أن يعطى حجمه الصحيح؟
لأي شئ كان الجرحى وخسائر الأمس؟..بغض النظر عن الموقف السياسي، فكل ما يحدث في الميدان يتحمله الثوار المتصارعين اليوم، أنتم تقتتلون على لعبة سياسية حلها يكون في الأروقة والغرف المغلقة..وليس في الميدان..

هل يظن أحد أنه لو أن الاخوان احتلوا ليلة أمس ميدان التحرير لكانت نتيجة اجتماع اليوم مختلفة؟..قطعا لا!..بكل تأكيد!
***
يؤسفني تكرار تراجع الرئيس أمام القضاء، وإن كان ذلك لا يعيب أبدا من حيث الأصل، لكنني كنت اتمنى أن تكون مواقف الرئاسة قائمة على أرض صلبة أكثر، لنؤيدها بثقة أكبر..لكن ربما للرئيس حساباته، ربما يصدر هذه القرارات لتحريك الماء الراكد، لاجبار الهيئة القضائية على الاجتماع به والتفاوض، لأي سبب كان..لكن السؤال هو: ما الداعي للتغطية على ما يفعله الرئيس بهذا الصخب في الشارع؟!

أليس الأجدر بكل هذه القوى أن توفر جهدها ودمها؟..ألا تعتقد هذه القوى المتصارعة من الجانبين أن لجماهيرها طاقة محدودة، وأن طول الصراع العبثي في الشارع بلا طائل لن يؤدي في النهاية إلا إلى انفضاض الجماهير من حولها؟!

الثلاثاء، 9 أكتوبر 2012

تباً للعالَم...

تبدأ البرامج ومحاولات المبرمجين عادة ببرنامج تجريبي شهير هو (Hello World) ويعرّب في كثير من الأحيان بـ"أهلا بالعالم"..لا يفعل هذا البرنامج شيئاً سوى طباعة هذه الرسالة على شاشته..
لكن ماذا عن متمرد يود أن يبدأ ممارسة تمرده بحركة تجريبية؟..لا شك أنه سيبدأ دائماً بـ"تباً للعالم"..

لكن، وكما في عالم البرمجة، حيث يتوقف الشخص غير الشغوف حقيقة عند حدود (أهلا بالعالم)..فإن أدعياء التمرد دائماً ما يتوقفون عند (تباً للعالم)، أغلب المتمردين المعروفين هم من ذوي التمرد الشكلي، لا شئ حقيقي فيما يفعلون سوى شعارات ومظاهر، عناد في نقاط ربما لا تستحق كثيراً من العناء..ربما لهذا هم معروفون، فمبدأ (خالف تعرف) يعمل حقيقة، ومن كان غرضه أن يُعرف فلن يتكبد عناء تمرد حقيقي وتحدٍ يحتاج منه إلى صمود وخوض لمساحات مظلمة في هذا العالم، إذا كان يستطيع تحقيق الشهرة بأشياء أكثر بساطة بكثير!

استرعى انتباهي أمس، فيديو لرجل رأيت أنه متمرد حقيقي، أراه يستحق أن يكون رائداً في هذا العصر، استطاع حقيقة أن يعيش ويتكيف رغم رفض العالم الحديث له، "تباً للعالم"، لم يقلها بلسانه وانما بأفعاله، ثم ذهب يعرض أفكاره وما فعل مجدداً أمام هذا العالم، كأنما يقول له: "انظر وتعلّم إذاً يا مسكين!"..

كم أحسد هذا الرجل على قوته!

الاثنين، 8 أكتوبر 2012

المرة الأولى

تسألني "لم تفعل ذلك؟!"
حسناً يا صديقي، هل تذكر ذلك الشغف؟..خطواتك الأولى، تفعل هذا الأمر لأول مرة، أمر ما طالما نظرت لمن يفعلونه باعجاب وتمنيت أن تكون مكانهم..أنت اليوم بطل المشهد!
هل تذكر هذه الفرحة؟..عندما امتلكت لأول مرة ما حلمت طويلاً بامتلاكه، صرت سعيداً به، تلتفت نحوه، تتحسسه كلما مرت برهة من الوقت.

هل تذكر المرة الأولى التي حملت فيها مفتاح منزل والديك؟..كيف شعرت بكونك بالغاً موضع ثقة؟
هل تذكر أول ساعة يد امتلكتها؟..أول هاتف محمول؟..هل تذكر كم قضيت من الوقت تعبث به؟
هل تذكر أول صلاة؟..أول رمضان تصومه؟..
أول راتب تستلمه في أول وظيفة؟..أول مرة قدت فيها السيارة؟

يغيب هذا الاحساس لاحقاً باعتياد ما تفعل، تألفه بطبيعة الحال، ويصبح تكراره في أحسن الأحوال، جزءاً من الروتين لا تلقي له بالاً..تبحث عن الجديد، ثم تنتشي بتجربته، ثم تألف ما سبب لك هذه النشوة، لتبحث عن غيره..

أودى هذا الشعور بحياة الكثيرين، فبحثاً عن هذا الشغف، سقط البعضُ من الطائرات، أكل بعضَهم الوحوشُ والكواسر، أدمن بعضهم المخدرات، غرقَ بعضُهم في البحار، وقُتِل آخرون في معارك مختلفة التوصيف..انهم هؤلاء المغامرين الذين لم يتوقفوا أبداً عن اختراق الحجب، تجربة الجديد كان هدفهم ولم يوقفهم أي شئ، هم ماتوا كما يموت الناس، هم غالباً نادمون على بعض تجاربهم الآن، ربما كان يجدر بكثير منهم أن يتحلى بشئ من التعقل..

لكنك يا صديقي على النقيض، رغم قدرٍ من روح المغامرة تحليتَ به، تقل مع الوقت خياراتك، لتجد أنك رغم كل ما جربته في هذه الحياة، تقف الآن سئماً، تبحث عن أي جديد..والحقيقة التي ربما لا تخفى عليك وإن كنت تنساها، أن ما لم تجربه أكثر بكثير مما جربته، لكنك حددت أفكارك في محيطك الخاص، والذي ربما يكون أضيق مما تتصور!

وما بين الموت والحياة، والخطر والسلامة، تحتار..وتقف حائراً أمام أسئلةٍ تتكرر في كل موقف: هل يستحق الأمر مخاطرة؟..
وبين أن تموت جاهلاً بعد وقتٍ ما تأمل أن يبلغه أجلك، أو احتمال ما -كبر أو صغر- لموتك الآن بينما تتعلم..تتوقف!!..لتتساءل عن قيمةِ ما سوف تتعلم من هذه التجربة..

والحقيقة أن أجلك المكتوب لن يقدم موعده تهور ولن يؤخره تخاذل، لكنك إما أن تموت عارفاً، مجرباً، بطلاً إن شئت..أو تموت سئماً، وربما تموت سأماً، بعد حياة مملة عشت فيها شيخاً لم يتمتع بحكمة الشيوخ لأنه أحجم عن تجارب الشباب..

يا صديقي، أنا أفعل ذلك لأنني أفضّل الموت على الهرم..

الخميس، 4 أكتوبر 2012

أماكن

أعيش غريباً منذ الولادة، ولدت في العالم الجديد، حيث الكل غرباء، محاط دائماً بمن يراني "آخر"..
لست مطروداً ولست لاجئاً ولست ضائعاً، ولست حتى فقيراً معدماً في بلدي، انما أرتحل ويرتحل أهلي خلف الرزق، سواء كان ذاك الرزق علماً أو مالاً أو صحبة..قدّر لنا أن تتناثر أرزاقنا في هذا العالم..بعض الناس تأتيهم أرزاقهم من حيث تناثرت، وآخرين يرتحلون وراءها..
اعتدت هذه الحياة على أي حال، حتى بتّ أتصور هذا العالم صغيراً بالنسبة لي!..عالمٌ ضيق، إلا أن العمر قصير بما لن يكفي لرؤيته كاملاً..للأسف..

لستُ كثير الأسفار على أي حال، أقيم في جدة، الحجاز، بشكل أساسي منذ أكثر من عشرين عاماً، أنتهز كل فرصة للسفر، أحب اكتشاف الجديد، لكنني أهتم أكثر بتفاصيل المكان، والبشر، لست أسافر لتسجيل النقاط، فهذه تركيا، وهذه الكويت، وهذه مصر، كطريقة كثير من السياح، انما السفر هو ذاك الحي الذي أقمت فيه، وتلك المساحة التي أحطت بها كما أحاطت بك، تلك الخطوات وحدها هي ما أضيف إليك، وليس عدد الأختام في جواز سفرك!

ربما لهذا كنت أسخر من بعض السائحين العرب قائلاً: ذهبتَ إلى اسطنبول فبقيت في شارع الاستقلال، والى القاهرة حيث شارع جامعة الدول، والى باريس لتجلس في مقاهي الشانزيليزيه، وتقيم تقريباً في سوليدير بيروت، تجلس في نفس المقهى في نفس الشارع، وفي كل مكان من هذه الأماكن كان يؤنسك مواطنوك الجالسون من حولك، ماذا كان عليك لو بقيت ببلدك في مقهاك المفضل في شارع التحلية؟..

لم أسافر من قبل في فوج سياحي، ولا أتمنى ذلك، فمهما سعدت بما سأراه في ذلك الفوج، سيظل احساسي حاضراً، بأن هناك من قرر لي أن أرى هذا، وهناك من خطط لي خط سيري، وهذه الأشياء هي تفضيلات شخص ما، لم يكن أنا بالتأكيد!..

أجمل رحلاتي هي رحلة مفاجئة، أحمل حقيبتي وأسير مع صديق لي، نتسكع ونبحث خياراتنا بأنفسنا..بعيداً عن تلك الشوارع السياحية، الاستهلاكية، المتشابهة في كل بلد إلى حد الملل، وإن كنا نمر بها ولو بدافع الفضول، آداء الواجب أوتسجيل النقاط، فقط لأجل تلك الجملة القاتلة: "لا يعقل أن تذهب إلى اسطنبول ولا ترى شارع الاستقلال".."مصري ولا تعرف شارع جامعة الدول العربية؟!"، قد تضيع يوما من نزهتك لرؤية ما نراه في كل مدينة، لا بأس على أي حال..مادام مزاجك المستقل قد أبقى لك وقتك الخاص ومشاهداتك الخاصة..

قد أكتب هنا يوماً عن رحلتي إلى آخر العالم، وقد أكتب عن حي سكنته يوماً..سأحدثكم عن الأماكن..